_الجواب بالطبع نعم هناك نسختان من الإسلام متجاورتان في فضاء متوازٍ في المجتمع الإسلامي، ويمكن التعبير عنهما بإسلام الكهنة وإسلام الشعب.

أما إسلام الشعب فهو تلك النسخة اللينة الجميلة من الإسلام التي يتراحم الناس فيها ويحب بعضهم بعضاً ويؤمنون فيها بالفطرة أن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله وأن الله غفر لمومس من بني إسرائيل رأت كلباً يأكل الثرى من العطش فنزعت خفَّها ونزلت بئراً فملأت موقها فسقت الكلب فشكر الله لها فغفر لها.
إسلام الناس هو ذلك الإسلام الفطري الذي يفرح لذكر الله في الصوامع والبيع والصلوات والمساجد والكنائس حيث يذكر اسم الله كثيراً، يغني لله في الأعالي وينشر في الأرض المحبة وعلى الناس المسرة، وفي الأرض السلام.

أما إسلام الكهنة فهو ذلك الذي يرى أن الإسلام قطيعة تامة مع كل عقائد الأرض، وأن أي وفاق أو وئام بين الأديان هو استلاب في العقيدة ووهن في الانتماء، وأن أصل الإسلام الولاء والبراء، أن توالي إخوانك في المذهب وتعادي الأمم وتتعبد الله ببغض الناس من أي ملة كانوا ومن أي دين كانوا، إلا أولئك الذين يطابقونك في الأصول والفروع!.

لا يحتاج الإسلام الفطري إلى كهنة ليعلّموه أن الله هو رب العالم وهو سيد الأسرة الإنسانية وأنهم جميعاً خلقه وعباده، وأنه أرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم وأنه وليُّ المتقين وأنه خلق الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا.

في الإسلام الشعبي يغني المسلمون والنصارى معاً طلع البدر علينا من ثنيات الوداع، ويرتلون المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة دون أن يشعر أحد منهم أنه ينتهك تعاليم دينه وأسرار شريعته.

أما في إسلام الكهنة فاللقاء بين الأديان حرام والغناء حرام والموسيقا حرام وصوت البنات حرام وظهور البنات حرام، وأخيراً فإن أنشودة طلع البدر علينا التي غنتها الأجيال أربعة عشر قرناً دون توقف هي أيضاً كذبة موضوعة وليس لها سند صحيح!!.

في الإسلام الشعبي يتقبل المسلم كل جميل في العالم، وكل إبداع يقوم به شركاؤنا في الإنسانية، ويقبل كل جديد، ويفرح للإبداع، ويطرب للدهشة، أما إسلام الكهنة فقد اختار رفض ذلك كله تحت شعار كل إبداع ضلالة، وكل ضلالة في النار.

في المسجد الأموي مثلاً يفرح الإسلام الشعبي بهذه الروح الهندسية الرائعة، بغض النظر عن أن البنائين الذين استقدمهم الوليد بن عبد الملك من القسطنطينية وهم من نصارى الروم، ويفرح بالقبر الذي يتوسط المسجد وهو قبر النبي يحيى الذي يسميه المسيحيون يوحنا المعمدان، ويفرحون بجرن التعميد ومحرابه وقوسه حيث كان يقوم بتعميد الأطفال، وقد اختار الإسلام الشعبي أن يحافظ على كل هذه الآثار الجميلة، في قلب المسجد الأموي، وأن يستقبل عند هذه المشاعر المقدسة كل كهنة الأديان وأن يأتيها البابا يوحنا بولس ليقيم عندها صلاته ومحبته وزيارته.

فيما يرى إسلام الكهنة أن هذا كله حرام فلا يجوز بناء قبر في المسجد، ولا تجوز الصلاة إلى قبر، ولا يجوز إقرار بقاء قبر كاهن مسيحي، ولا يجوز إبقاء أدوات التعميد وجرن التعميد في أي مكان ناهيك أن تكون في قلب المسجد، ولا يجوز دخول النصارى المساجد، أما البابا فهو من رؤوس الكفر الذين يجب جهادهم وقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون!.

في الإسلام الشعبي يفرح المسلمون لوجود خمسة محاريب في المسجد الأموي، تعكس تعدد الثقافة والفكر، فعند المحراب الأول يقرأ علم الشافعي وعند الثاني يتلى علم مالك وعند الثالث يروى علم أبي حنيفة وعند الرابع يدرّس علم أحمد أما الخامس فهو مشهد الحسين حيث محراب زين العابدين وفيه علم السادة من أهل البيت وفقه جعفر الصادق، وهكذا يطوف الإسلام الشعبي على هذه المحاريب كلها بالحب والحبور، يحترم بعضه بعضاً ويثني بعضها على أداء بعض.

أما إسلام الكهنة فيرى ذلك حراماً كله، فلا يوجد اعتراف بالمذاهب أصلاً، ولا يسمح بتعدد المذاهب، والفتوى المعتمدة تكفير الأمم والشعوب والديانات وتكفير المسلمين من غير أهل السنة، وتدمير مراقد الشيعة، والمنهج المعتمد هو منهج ابن تيمية الذي كرره في فتاويه 427 مرة بعبارته الشهيرة: القول ما قلناه ومن قال بغيره فإنه يستتاب وإلا قتل!!.

في الإسلام الشعبي يستحسن الناس تطوير كل شيء ويستعذبون كل جميل، ويبنون المآذن الجميلة، وترتبط بكل مئذنة قصة وحكاية، وفي هدية رفق ومحبة لجيران المسجد الجميل يتفق المسلمون على تسمية المئذنة بأنها مئذنة عيسى ويستقر في الذهن الشعبي أن المسيح عيسى بن مريم سينزل على هذه المنارة البيضاء، وتطوف حوله أشواق المسلمين والمسيحيين، وتصبح المنارة نصب محبة ومودة بين اتباع محمد والمسيح، يتلى عليها الأذان فتستجيب لها كنائس القيمرية والمريمية والزيتونة بالأجراس الراقصة الجميلة.

أما إسلام الكهنة فيرى ذلك كله حراماً وضلالاً وبدعة، وأن المطلوب هو هدم هذه المئذنة كلها لأنها أثر من آثار النصارى لا يمكن التوبة منه إلا بتفجير ماحق أو هدم ساحق.

في الإسلام الشعبي يستحسن الناس أن يتطور الأذان من صوت فرد إلى صوت جوقة، وأن يكون المؤذنون عشرة من أجمل أصوات الشام وأكثرها إتقاناً وبلاغاً وندى، وتبدأ الجوقة اجتهاداً من المؤذنين فتستحسنها الذائقة الشعبية وتصير عنواناً لفرح الشام أنس الشام وطرب الشام، ويثني الفقهاء والأئمة على ذلك وتصبح للمسجد الأموي شعاراً ودثاراً وآية فن.

ولكن إسلام الكهنة لا يرى في هذا الفن الجميل إلا بدعة منكرة مرذولة، وإن واجب ولي الأمر أن يصفع هؤلاء المؤذنين على قفاهم وكذلك كل من استحسنهم وأعجب بهم وطرب لهم، فهم شركاء في البدعة والفتنة والضلالة، وأن يعود الناس إلى أذان نجد وعنيزة وبريدة.

أليس من العقل والمنطق أن نتساءل كيف رضي المسلمون خلال التاريخ بقاء كل هذه (البدع والمنكرات) من قبور وجرن تعميد ومحاريب ومراقد شيعة في جوف المسجد الجليل، وكيف اختاروا أن تكون مجالسهم ومقارئهم ومنصاتهم عند هذه (البدع والمنكرات) يتوالى عليها الفقهاء والمحدثون والمعلمون والأئمة وكذلك الأمراء والوزراء والعامة والصوفية دون إنكار من أحد؟.

الإسلام الشعبي هو الأكثر حضوراً وتأثيراً، وهو سواد الناس الأعظم الذي أوصى رسول الله باتباعه، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها قبل أن يكون هناك كهنوت ولاهوت وإكليروس، وهو الإسلام الذي يعيش اليوم متصالحاً مع العالم، شريكاً في حضارته ومستقبله وتطوره.

إنها ليست مسالة أحجار وتراث، بل هي جدل العقل كله، وصراع العلم والجهل، والنور والظلمة، واختيار الفوضى على النظام والقبح على الجمال والماضي على المستقبل والهمود على الصعود واليأس على الأمل.

ويلٌ لأمة تكثر فيها المعابد ويقل فيها الإيمان

دونه: الدكتور محمد حبش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *