بين الماضي والمستقبل والحاضر صورٌ متناقضة رآها السوري عند وقوفه أمام المرآة، بين الاحتفال بدمشق كعاصمة الثقافة العربية لعام 2008، واحتلالها المركز قبل الأخير بين ترتيب العواصم الأكثر أماناً في العالم، وبين خرابها الأخير. عندها اختار أن يسحب حقيبته من رفّ التاريخ ليضع فيها بضعاً من حجارة إبلا، نقش الحروف الآرامية على ثوبه ولغته، والقليل من كاسيتات القدود الحلبية تحت انتصاراته العظيمة على مر الزمن مهرولاً يبحث لنفسه عن ملاذ آمن بعد أن أغلقت أبواب مكاتب السفارات ولغي التمثيل الدبلوماسي لمعظمها في سورية.

إنّ إلغاء التمثيل الدبلوماسي وإغلاق السفارات في وجوهنا لم يكن رفضاً لسورية كدولة فقط، وقد يكون سحب الممثلين الدبلوماسيين موقفاً سياسياً من الدولة ككيان، لكنه حقيقةً كان موقفاً من شعب، إذ إنّه موقف من الإنسان بالدرجة الأولى، وبعد أن أغلقت الأبواب في وجهنا حال إصرارنا على البقاء أساليباً ملتوية.

بدأنا من الشمال، على سواحل تركيا تحديداً، واعتقدنا أن قواربها هي الملاذ الآمن، فدفعنا ثمن ذلك مبالغ طائلة لمافيات التهريب، كما ترتب على البعض منا ضرائب كلفتهم أرواحهم التي خسروها سواء في عرض البحر أو بين الغابات.
فهل في أقدار السياسة، وهي “فن الممكن” سنعود سيّاحاً في هذه البلاد بعد أن حالت ملاذاً لشتاتنا لسنوات؟! أم أنّنا قد نتبادل الأدوار لنستقبلهم كما استقبلونا يوماً؟!

من تبقى منا بين شوارع البلد تمتع بسقف راتب لا يزيد على 150 ألف للقطاعات الخاصة و 60 ألف ل.س للعاملين في القطاعات العامة، وبينما تبني دولة عربية شقيقة أهم معامل النسيج على مستوى العالم، كنا نحن نحاول إنعاش سوق الألبسة لدينا من سباته الطويل.
تغيرت جودة كل ما نملك حتى رغيف الخبز.
ولم نجرب أبداً العمل على الأنظمة الاقتصادية الجديدة كأن نتتبع أين وصل منتجنا في العالم وكيف يحقق نجاحاً بعد نجاح، أو كأن نجرّب أنظمة الكترونية تختصر من عدد الطوابير .
بينما تكاد أنابيب الغاز تنفجر في بلاد أخرى، كانت جارتي الكبيرة في السن تحمل أسطوانة الغاز باحثة عن المعتمد لتستطيع ارتشاف قهوتها صباحاً، قبل اللحاق بالحافلة إلى طابور الخبز.
فهل ستفتتح هذه الحقائب بوابات أسواقنا للاستيراد والتصدير مجدداً بعد أن صرنا لسنوات انصرمت لا نصدّر سوى البشر؟

غابت أخبار السفارات عن المانشيتات العريضة في معظم الأحوال، عدا الأخبار التي تمس بالضرائب المتزايدة على استيراد وتصدير البضائع أو المواطنين حتى.
اختلف نهج أغانينا اليومية ومفرداتنا فاحتضنت “لم شمل” و “سفرني ع أي بلد” وغيرها.
أصبح الشتات والحيرة والغربة والحرب العنصر الدرامي الرئيسي في مسلسلاتنا فمعظمنا شاهد مسلسل (ضبوا الشناتي) في رمضان 2014 حيث عبّر أبطاله العمالقة من خلال النص الشجاع عن عمق تخبطاتنا التي كانت في ذلك الوقت ملفوفة بأسلاك شائكة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، تخبطاتنا بين الموت والألم والانتظار والحيرة والفقر والأمال المعلقة.
وكان أول مسلسل في تاريخنا الحديث بطولته جماعية لتشمل وطن في كل تفاصيله.
المسلسل انتهى.
الحقائب الدبلوماسية توضب لتحط رحالها في أرضنا سورية التي كانت لآلاف السنين المركز للجيش الحقيقي القوي، وللعقائد وللثروات والتاريخ والاحتواء لكل الأحلام.
هل سيكون إفراغ الحقائب الدبلوماسية أزراً للاحتفال بسورية جديدة؟ وبدايةً لنهضة اقتصادية حقيقية بالتعاون مع العالم الصديق؟!
هل سنفرغ حقائبنا لأن الأصدقاء عادوا لنبقى إلى جوارهم ونصنع يداً بيد غدنا الذي سألنا ورجونا أن يكون؟! أم أننا استُنزفنا في المرحلة الماضية ولم نعد قادرين على التماسك أكثر؟!
أخيراً، استعارة من سؤال الجارة نادين لبكي:” وهلأ لوين؟!”، نسأل نحن: “هلأ كيف؟! ولوين؟!”

دوّنته: علا قضماني.

تصميم: Smart Step

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *